فصل: تفسير الآية رقم (41)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏لّلْعِبَادِ وياقوم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد‏}‏ خفهم بالعذاب الأخروي بعد تخويفهم بالعذاب الدنيوي، والتناد مصدر تنادي القوم أي نادي بعضهم بعضاً، ويوم التناد يوم القيامة سمي بذلك لأنه ينادي فيه بعضهم بعضاً للاستغاثة أو يتصايحون فيه بالويل والثبور أو لتنادي أهل الجنة وأهل النار كما حكي في سورة الأعراف أو لأن الخلق ينادون إلى المحشر أو لنداء المؤمن ‏{‏هَاؤُمُ اقرؤا كتابيه‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 19‏]‏ والكافر ‏{‏لَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كتابيه‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 25‏]‏

وعن ابن عباس أن هذا التنادي هو التنادي الذي يكون بين الناس عند النفخ في الصور ونفخة الفزع في الدنيا وأنهم يفرون على وجوههم للفزع الذي نالهم وينادي بعضهم بعضاً، وروي هذا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عطية‏:‏ يحتمل أن يراد التذكير بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة‏.‏

وقرأت فرقة ‏{‏التناد‏}‏ بسكون الدال في الوصل إجراء له مجرى الوقف‏.‏ وقرأ ابن عباس‏.‏ والضحاك‏.‏ وأبو صالح‏.‏ والكلبى‏.‏ والزعفراني‏.‏ وابن مقسم ‏{‏التناد‏}‏ بتشديد الدال من ند البعير إذا هرب أي يوم الهرب والفرار لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ‏}‏ ‏[‏عيسى‏:‏ 34‏]‏ الآية، وفي الحديث «إن للناس جولة يوم القيامة يندون يظنون أنهم يجدون مهرباً»‏.‏

وقيل‏:‏ المراد به يوم الاجتماع من ندا إذا اجتمع ومنه النادي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ‏}‏ بدل من ‏{‏يوم التناد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 32‏]‏ أي يوم تولون عن الموقف منصرفين عنه إلى النار، وقيل‏:‏ فارين من النار، فقد روي أنهم إذا سمعوا زفير النار هربوا فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفاً فلا ينفعهم الهرب، ورجح هذا القول بأنه أتم فائدة وأظهر ارتباطاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا لَكُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ‏}‏ أي يعصمكم في فراركم حتى لا تعذبوا في النار قاله السدى، وقال قتادة‏:‏ أي ما لكم في الانطلاق إلى النار من مانع يمنعكم منها أو ناصر، وهذا ما يقال على المعنى الأول ليوم تولون مديرين وأيا ما كان فالجملة حال أخرى من ضمير ‏{‏تُوَلُّونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏ يهديه إلى طريق النجاه أصلا، وكأن الرجل يئس من قبولهم نصحه فقال ذلك ثم وبخهم على تكذيب الرسل السالفين فقال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ‏}‏ بن يعقوب عليهما السلام ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ أي من قبل موسى ‏{‏بالبينات‏}‏ الأمور الظاهرة الدالة على صدقه ‏{‏فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكّ مّمَّا جَاءكُمْ بِهِ‏}‏ من الدين ‏{‏حتى إِذَا هَلَكَ‏}‏ بالموت ‏{‏قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً‏}‏ غاية لقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا زِلْتُمْ‏}‏ وأرادوا بقولهم‏:‏ ‏{‏لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً‏}‏ تكذيب رسالته ورسالة غيره أي لا رسول فيبعث فهم بعد الشك بتوا بهذا التكذيب ويكون ذلك ترقيا‏.‏

ويجوز أن يكون الشك في رسالته على حاله وبتهم إنما هو بتكذيب رسالة غيره من بعده، وقيل‏:‏ يحتمل أن يكونوا أظهروا الشك في حياته حسداً وعناداً علما مات عليه السلام أقروا بها وانكروا أن يبعث الله تعالى من بعده رسولا وهو خلاف الظاهر، ومجىء يوسف بن يعقوب عليهما السلام المخاطبين بالبينات قيل‏:‏ من باب نسبة أحوال الآباء إلى الأولاد وكذلك نسبة الأفعال الباقية إليهم، وجوز كون بعض الذين جاءهم يوسف عليه السلام حقيقة حيا؛ ففي بعض التواريخ ان وفاة يوسف عليه السلام قبل مولد موسى عليه السلام بأربعين وستين سنة فيكون من نسبة حال البعض إلى الكل، واستظهر في البحر أن فرعون يوسف عليه السلام هو فرعون موسى عليه السلام، وذكر عن أشهب عن مالك أنه بلغه أنه عمر اربعمائة وأربعين سنة، والذي ذكره أغلب المؤرخين أن فرعون موسى اسمه الريان وفرعون يوسف اسمه الوليد‏.‏

وذكر القرطبي أن فرعون الأول من العمالقة وهذا قبطي، وفرعون يوسف عليه السلام مات في زمنه، واختار القول بتغايرهما، وأمر المجيء وما معه من الأفعال على ما سمعت، وقيل‏:‏ المراد بيوسف المذكور هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف الصديق أرسله الله تعالى نبينا فأقام فيهم عشرين سنة وكان من أمرهم ما قص الله عز وجل‏:‏ ومن الغريب جداً ما حكاه النقاش‏.‏ والماوردي أن يوسف المذكور في هذه السورة من الجن بعثه الله تعالى رسولاً إليهم، نقله الجلال السيوطي في الاتقان ولا يقبله من له أدنى إتقان‏.‏ نعم القول بأن للجن نبياً منهم اسمه يوسف أيضاً مما عسى أن يقبل كما لا يهفى‏.‏

وقرىء ‏{‏أَلَّن يَبْعَثَ‏}‏ بادخال عمزة الاستفهام على حرف النفي كأن بعضهم يقرر بعضاً على نفي البعثة‏.‏

‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ذلك الاضلال الفظيع ‏{‏يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ‏}‏ في العصيان ‏{‏مُّرْتَابٌ‏}‏ في دينه شاك فيما تشهد به البينات لغلبة الوهم والانهماك في التقليد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يجادلون فِى ءايات الله‏}‏ بدل من الموصول الأول أعني من أو بيان أو صفة له باعتبار معناه كأنه قيل‏:‏ كل مسرف مرتاب أو المسرفين المرتابين، وجوز نصبه بأعني مقدراً، وقوله تعالى شأنه‏:‏ ‏{‏بِغَيْرِ سلطان‏}‏ على الأوجه المذكورة متعلق بيجادلون وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏اتِيهِمْ‏}‏ صفة ‏{‏سلطان‏}‏ والمراد باتيانه اتيانه من جهته سبحانه وتعالى اما على أيدي الرسل عليهم السلام فيكون ذاك إشارة إلى الدليل النقلي، واما بطريق الإفاضة على عقولهم فيكون ذاك إشارة إلى الدليل العقلي، وقد يعمم فيكون المعنى يجادلون بغير حجة صالحة للتمسك بها أصلاً لا عقلية ولا نقلية‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله وَعِندَ الذين ءامَنُواْ‏}‏ تقرير لما أشعر به الكلام من ذمهم وفيه ضرب من التعجب والاستعظام، وفاعل ‏{‏كَبُرَ‏}‏ ضمير راجع إلى الجدال الدال عليه ‏{‏يجادلون‏}‏ على نحو من كذب كان شراً له أي كبر الجدال في آيات الله بغير حجة مقتا عند الله الخ، أو إلى الموصول الأول وأفرد رعاية للفظه، واعترض عليه بأنه حمل على اللفظ من بعد الحمل على المعنى، وأهل العربية يجتنبونه‏.‏

وقال صاحب الكشف‏:‏ هذا شيء نقله ابن الحاجب ولم يساعده غيره وهو غير مسلم أي كبر المسرف المرتاب المجادل في آيات الله بغير حجة مقتاً أي كبر مقته وعظم عند الله تعالى وعند المؤمنين ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ذلك الطبع الفظيع ‏{‏يَطْبَعُ الله على كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ‏}‏ فيصدر عنه أمثال ما ذكر من الاسراف والارتياب والمجادلة بغير حق؛ وجوز أن يكون ‏{‏الذين‏}‏ مبتدأ وجملة ‏{‏كَبُرَ‏}‏ خبره لكن على حذفل مضاف هو المخبر عنه حقيقة أي جدال الذين يجادلون كبر مقتا، وان يكون ‏{‏الذين‏}‏ مبتدأ على حذف المضاف ‏{‏بِغَيْرِ سلطان‏}‏ خبر المضاف المقدر أي جدال الذين يجادلون في ءايات الله تعالى كائن بغير سلطان، وظاهر كلام البعض ان ‏{‏الذين‏}‏ مبتدأ من غير حذف مضاف و‏{‏بِغَيْرِ سلطان‏}‏ خبره، وفيه الأخبار عن الذات والجثة بالظرف وفاعل ‏{‏كَبُرَ‏}‏ كذلك على مذهب من يرى اسمية الكاف كالأخفش أي كبر مقتاً مثل ذلك الجدال فيكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَطْبَعُ‏}‏ الخ استئنافاً للدلالة على الموجب لجدالهم، ولا يخفى ما في ذلك من العدول عن الظاهر، وفي البحر الأولى في إعراب هذا الكلام أن يكون ‏{‏الذين‏}‏ مبتدأ وخبره ‏{‏كَبُرَ‏}‏ والفاعل ضمير المصدر المفهوم من ‏{‏يجادلون‏}‏ أي الذين يجادلون كبر جدالهم مقتاً فتأمل‏.‏

وقرأ أبو عمرو‏.‏ وابن ذكوان‏.‏ والأعرج بخلاف عنه ‏{‏قَلْبٌ‏}‏ بالتنوين فما بعده صفته، ووصفه بالكبر والتجبر لأنه منبعهما كقولهم‏:‏ رأت عيني وسمعت أذني، وجوز أن يكون ذاك على حذف مضاف أي كل ذي قلب متكبر جبار، وجعل الصفتين لصاحب القلب لتتوافق القراءتان هذه وقراءة باقي السبعة بلا تنوين، وعن مقاتل المتكبر المعاند في تعظيم أمر الله تعالى، والجبار المتسلط على خقل الله تعالى، والظاهر أن عموم كل منسحب على المتكبر والجبار أيضاً فكأنه اعتبر أولاً إضافة ‏{‏قَلْبٌ‏}‏ إلى ما بعد ثم اعتبرت إضافته إلى المجموع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأيها ياهامان ابن لِى صَرْحاً‏}‏ بناء مكشوفاً عالياً من صرح الشيء إذا ظهر ‏{‏لَّعَلّى أَبْلُغُ الاسباب‏}‏ أي الطرق كما روي عن السدى، وقال قتادة‏:‏ الأبواب وهي جمع سبب ويطلق على كل ما يتوصل به إلى شيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏أسباب السموات‏}‏ بيان لها، وفي إبهامها ثم إيضاحها تفخيم لشأنها وتشويق للسامه إلى معرفتها‏.‏

‏{‏فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى‏}‏ بالنصب على جواب الترجى عند الكوفيين فإنهم يجوزون النصب بعد الفاء في جواب الترجى كالتمني؛ ومنع ذلك البصريون وخرجوا النصب هنا على أنه في جواب الأمر وهو ‏{‏ابن‏}‏ كما في قوله‏:‏ يا ناق سيري عنقا فسيحا *** إلى سليمان فنستريحا

وجوز أن يكون بالعطف على خبر لعلي بتوهم أن فيه لأنه كثيراً ما جاءنا مقرورنا بها أو على ‏{‏الاسباب‏}‏ على حد‏.‏ ولبس عباءة وتقر عيني *** وقال بعض‏:‏ إن هذا الترجي تمن في الحقيقة لكن أخرجه اللعين هذا المخرج تمويهاً على سامعيه فكان النصب في جواب التمني، والظاهر أن البصريين لا يفرقون بين ترج وترج‏.‏ وقرأ الجمهور بالرفع عطفاً على ‏{‏أَبْلُغُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 36‏]‏ قيل‏:‏ ولعله أراد أن يبني له رصداً في موضع عال يرصد منه أحوال الكواكب التي هي أسباب سماوية تدل على الحوادث الأرضية فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله تعالى إياه، وهذا يدل على أنه مقر بالله عز وجل وإنما طلب ما يزيل شكه في الرسالة، وكان للعين وأهل عصره اعتناء بالنجوم وأحكامها على ما قيل‏.‏

وهذا الاحتمال في غاية البعد عندي، وقيل‏:‏ أراد أن يعلم الناس بفساد قول موسى عليه السلام‏:‏ إني رسول من رب السماوات بأنه إن كان رسولاً منه فهو ممن يصل إليه وذلك بالصعود للسماء وهو محال فما بني عليه مثله، ومنشأ ذلك جهله بالله تعالى وظنه أنه سبحانه مستقر في السماء وان رسله كرسل الملوك يلاقونه ويصلون إلى مقره، وهو عز وجل منزه عن صفات المحدثات والأجسام ولا تحتاج إلى ما تحتاج إليه رسل الملوك رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام، وهذا نفي لرسالته من الله تعالى ولا تعرض فيه لنفي الصانع المرسل له، وقال الإمام‏:‏ الذي عندي في تفسبر الآية أن فرعون كان من الدهرية وغرضه من هذا الكلام إيراد شبهة في نفسي الصانع وتقريره أنه قال‏:‏ إنا لا نرى شيئاً نحكم عليه بأنه إله العالم فلم يجزا إثبات هذا الإله، أما أنا لا نراه فلأنه لو كان موجوداً لكان في السماء ونحن لا سبيل لنا إلى صعود السماوات فكيف يمكننا أن نراه، وللمبالغة في بيان عدم الإمكان قال‏:‏ ‏{‏ياهامان ابن لِى صَرْحاً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 36‏]‏ فما هو ألا لاظهار عدم إمكان ما ذكر لكل أحد، ولعل لا تأبى ذلك لأنها للتهكم على هذا وهي شبهة في غاية الفساد إذ لا يلزم من انتفاء أحد طرق العلم بالشيء انتفاء ذلك الشيء، ورأيت لبعض السلفيين إن اللعين ما قال ذلك إلا لأنه سمع من موسى عليه السلام أو من أحد من المؤمنين وصف الله تعالى بالعلو أو بأنه سبحانه في السماء فحمله على معنى مستحيل في حقه تعالى لم يرده موسى عليه السلام ولا أحد من المؤمنين فقال ما قال تهكماً وتمويهاً على قومه، وللإمام في هذا المقام كلام رد به على القائلين بأن الله تعالى في السماء ورد احتجاجهم بما أشعرت به الآية على ذلك وسماهم المشبهة، والبحث في ذلك طويل المجال والحق مع السلف عليهم رحمة الملك المتعال وحاشاهم ثم حاشاهم من التشبيه، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنّى لاَظُنُّهُ كاذبا‏}‏ يحتمل أن يكون عني به كاذباً في دعوى الرسالة وأن يكون عني به كاذباً في دعوىأن له إلهاً غيري لقوله‏:‏

‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏

وكذلك‏}‏ أي ومثل ذلك التزيين البليغ المفرط ‏{‏زُيّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوء عَمَلِهِ‏}‏ فانهمك فيه انهماكا لا يرعوى عنه بحال ‏{‏وَصُدَّ عَنِ السبيل‏}‏ أي عن سبيل الرشاد، فالتعريف للعهد والفعلان مبنيان للمفعول والفاعل في الحقيقة هو الله تعالى، ولم يفعل سبحانه كلا من التزيين والصد إلا لأن فرعون طلبه بلسان استعداده واقتضى ذلك سوء اختياره؛ ويدل على هذا أنه قرىء ‏{‏زُيّنَ‏}‏ مبنياً للفاعل ولم يسبق سوى ذكره تعالى دون الشيطان‏.‏

وجوز أن يكون الفاعل الشيطان ونسبة الفعل إليه بواسطة الوسوسة، وقرأ الحجازيان‏.‏ والشامي‏.‏ وأبو عمرو ‏{‏وَصُدَّ‏}‏ بالبناء للفاعل وهو ضمير فرعون على أن المعنى وصد فرعون الناس عن سبيل الرشاد بأمثال هذه التمويهات والشبهات، ويؤيده ‏{‏وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى تَبَابٍ‏}‏ أي في خسار لأنه يشعر بتقدم ذكر للكيد وهو في هذه القراءة أظهر، وقرأ ابن وثاب ‏{‏وَصُدَّ‏}‏ بكسر الصاد أصله صدد نقلت الحركة إلى الصاد بعد توهم حذفها، وابن أبي إسحق‏.‏ وعبد الرحمن بن أبي بكرة ‏{‏وَصُدَّ‏}‏ بفتح الصاد وضم الدال منونة عطفاً على ‏{‏سُوء عَمَلِهِ‏}‏، وقرىء ‏{‏وَصُدُّواْ‏}‏ بواو الجمع أي هو وقومه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الذى ءامَنَ‏}‏ هو مؤمن آل فرعون، وقيل‏:‏ فيه نظير ما قيل في سابقه أنه موسى عليه السلام وهو ضعيف كما لا يخفى ‏{‏ءامَنَ ياقوم اتبعون‏}‏ فيما دللتكم عليه ‏{‏أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد‏}‏ سبيلاً يصل به سالكه إلى المقصود، وفيه تعريض بأن ما عليه فرعون وقومه سبيل الغي‏.‏ وقرأ معاذ بن جبل كما في البحر ‏{‏الرشاد‏}‏ بتشديد الشين وتقدم الكلام في ذلك فلا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏سَبِيلَ الرشاد ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا‏}‏ أي تمتع أو متمتع به يسير لسرعة زواله ‏{‏وَإِنَّ الاخرة هِىَ دَارُ القرار‏}‏ لخلودها ودوام ما فيها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً‏}‏ في الدنيا ‏{‏فَلاَ يجزى‏}‏ في الآخرة ‏{‏إِلاَّ مِثْلَهَا‏}‏ عدلاً من الله عز وجل، واستدل به على أن الجنايات تغرم بمثلها أي بوزانها من غير مضاعفة ‏{‏وَمَنْ عَمِلَ صالحا مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ‏}‏ الذين عملوا ذلك ‏{‏يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ بغير تقدير وموازنة بالعمل بل اضعافا مضاعفة فضلاً منه تعالى ورحمة، وقسم العمال إلى ذكر وأنثى للاهتمام والاحتياط في الشمول لاحتمال نقص الاناث، وجعل الجزاء في جزاء أعمالهم جملة اسمية مصدرة باسم الإشارة مع تفضيل الثواب وتفصيله تغليباً للرحمة وترغيباً فيما عند الله عز وجل، وجعل العمل عمدة وركنا من القضية الشرطية والإيمان حالاً للدلالة على أن الإيمان شرط في اعتبار العمل والاعتداد به والثواب عليه لأن الأحوال قيود وشروط للحكم التي وقعت فيه، ويتضمن ذلك الإشارة إلى عظيم شرفه ومزيد ثوابه، وقرأ الأعرج‏.‏ والحسن‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وعيسى‏.‏ وغير واحد من السبعة ‏{‏يَدْخُلُونَ‏}‏ مبنياً للمفعول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏وياقوم مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وَتَدْعُونَنِى إِلَى النار‏}‏ كرر نداءهم إيقاظاً لهم عن سنة الغفلة واهتماماً بالمنادي له ومبالغة في توبيخهم على ما يقابلون به دعوته، وترك العطف في النداء الثاني وهو ‏{‏ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 39‏]‏ الخ لأنه تفسير لما أجمل في النداء قبله من الهداية إلى سبيل الرشاد فإنها التحذير من الاخلاد إلى الدنيا والترغيب في إيثار الآخرة على الأولى وقد أدى ذلك فيه على أتم وجه وأحسنه ولم يترك في هذا النداء لأنه ليس بتلك المثابة وذلك لأنه للموازنة بين الدعوتين دعوته إلى دين الله الذي ثمرته النجاة ودعوتهم إلى اتخاذ الأنداد الذي عاقبته النار، وليس ذلك من تفسير الهداية في شيء بل ذلك لتحقيق أنه هادوانهم مضلون وأن ما عليه هو الهدى وما هم عليه هو الضلال فهو عطف على النداء الأول أو المجموع، وقيل‏:‏ هو عطف على النداء الثاني داخل معه في التفسير لما أجمل في النداء الأول تصريحاً وتعريضاً، ولكل وجه وفي الترجيح كلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏تَدْعُونَنِى لاَكْفُرَ بالله‏}‏ بدل من ‏{‏تدعونني إلى النار‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 41‏]‏ أو عطف بيان له بناء على أنه يجري في الجمل كالمفردات أو جملة مستأنفة مفسرة لذلك، والدعاء كالهداية في التعدية بإلى واللام ‏{‏وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ‏}‏ أي بكونه شريكاً له تعالى في المعبودية أو بربوبيته وألوهيته ‏{‏عِلْمٍ‏}‏ ونفي العلم هنا كناية عن نفي المعلوم، وفي إنكاره للدعوة إلى ما لا يعلمه اشعار بأن الألوهية لا بد لها من برهان موجب للعلم بها‏.‏

‏{‏وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى العزيز الغفار‏}‏ المستجمع لصفات الألوهية من كمال القدرة والغلبة وما يتوقف عليه من العلم والإرادة والتمكن من المجازاة والقدرة على التعذيب والغفران وخص هذان الوصفان بالذكر وإن كان كناية عن جميع الصفات لاستلزامهما ذلك كما أشير إليه لما فيهما من الدلالة على الخوف والرجاء المناسب لحاله وحالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدنيا وَلاَ فِى الاخرة‏}‏ سياقه على مذهب البصريين ان ‏{‏لا‏}‏ رد لكلام سابق وهو ما يدعونه إليه ههنا من الكفر بالله سبحانه وشرك الآلهة الباطلة عز وجل به ودجرم‏}‏ فعل ماض بمعنى ثبت وحق كما في قوله‏:‏ ولقد طعنت أبا عبيدة طعنة *** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

وأن ما في حيزها فاعله أي ثبت وحق عدم دعوة للذي تدعونني إليه من الأصنام إلى نفسه أصلاً يعني ان من حق المعبود بالحق أن يدعو العباد المكرمين كالأنبياء والملائكة إلى نفسه ويأمرهم بعبادته ثم يدعو العباد بعضهم بعضاً إليه تعالى وإلى طاعته سبحانه اظهاراً لدعوة ربهم عز وجل وما تدعون إليه وإلى عبادته من الأصنام لا يدعو هو إلى ذلك ولا يدعى الربوبية أصلاً لا في الدنيا لأنه جماد فيها لا يستطيع شيئاً من دعاء وغيره ولا في الآخرة لأنه إذا انشأه الله تعالى فيها حيواناً تبرأ من الدعاة إليه ومن عبدته وحاصله حق إن ليس لآلهتكم دعوة أصلاً فليست بالهة حقة أو بمعنى كسب وفاعله ضمير الدعاء السابق الذي دعاه قومه وان مع ما في حيزها مفعوله أي كسب دعاؤكم إياي إلى آلهتكم أن لا دعوة لها أي ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوتها وذهابها ضياعاً، وقيل‏:‏ ‏{‏جَرَمَ‏}‏ اسم لا وهو مصدر مبني على الفتح بمعنى القطع والخبر أن مع ما في حيزها على معنى لا قطع لبطلان دعوة ألوهية الأصنام أي لا ينقطع ذلك البطلان في وقت من الأوقات فينقلب حقاً، وهذا البطلان هو معنى النفي الذي يفهم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ‏}‏ الخ، و‏{‏لاَ جَرَمَ‏}‏ على هذا مثل لا بد فإنه من التبديد وهو التفريق وانقطاع بعض الشيء من بعض، ومن ثم قيل‏:‏ المعنى لا بد من بطلان دعوة الأصنام أي بطلانها أمر ظاهر مقرر، ونقل هذا القول عن الفراء، وعنه ان ذلك هو أصل ‏{‏لاَ جَرَمَ‏}‏ لكنه كثر استعماله حتى صار بمعنى حقاً فلهذا يجاب بما يجاب به القسم في مثل لا جرم لآتينك‏.‏ وفي الكشاف وروي عن العرب لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء أي لا بد وفعل وفعل إخوان كرشد ورشد وعدم وعدم، وهذه للغة تؤيد القول بالاسمية في اللغة الأخرى ولا تعينها كما لا يخفى، وقد تقدم شيء من الكلام في لا جرم أيضاً فليتذكر‏.‏

ولام له في جميع هذه الأوجه لنسبة الدعوة إلى الفاعل على ما سمعت من المعنى، وجوز أن يكون لنسبتها لي المفعول فإن الكفار كانوا يدعون آلهتهم فنفي في الآية دعاءهم إياها على معنى نفي الاستجابة منها لدعائهم إياها، فالمعنى ان ما تدعونني إليه من الأصنام ليس له استجابة دعوة لمن يدعوه أصلاً أو ليس له دعوة مستجابة أي لا يدعي دعاء يستجيبه لداعيه‏.‏

فالكلام اما على حذف الماضف أو على حذف الموصوف، وجوز التجوز فيه للدعوة عن استجابتها التي تترتب عليها، وهذا كما سمي الفعل المجازي عليه باسم الجزاء في قولهم‏:‏ كما تدين تدان هو من باب المشاكلة عند بعض ‏{‏وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى الله‏}‏ أي مرجعنا إليه تعالى بالموت، وهذا عطف على ‏{‏ءانٍ تَدْعُونَنِى فِى الاخرة وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى الله وَأَنَّ المسرفين هُمْ أصحاب النار‏}‏ وفسر ابن مسعود‏.‏ ومجاهد‏.‏ ‏{‏المسرفين‏}‏ هنا بالسفاكين للدماء بغير حلها فيكون المؤمن قد ختم تعريضاً بما أفتتح به تصريحاً في قوله‏:‏ ‏{‏أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 28‏]‏

وعن قتادة أنهم المشركون فإن الاشراك اسراف في الضلالة، وعن عكرمة أنهم الجبارون المتكبرون، وقيل‏:‏ كل غلب شره خيره فهو مسرف والمراد بأصحاب النار ملازموها، فإن أريد بالمسرفين ما يدخل فيه المؤمن أريد بالملازمة العرفية الشاملة للمكث الطويل، وإن أريد بهم ما يخص الكفرة فهي بمعنى الخلود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏فَسَتَذْكُرُونَ‏}‏ وقرىء ‏{‏فَسَتَذْكُرُونَ‏}‏ بالتشديد أي فسيذكر بعضكم بعضاً عند معاينة العذاب ‏{‏مَا أَقُولُ لَكُمْ‏}‏ من النصائح ‏{‏وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى الله‏}‏ ليعصمني من كل سوء ‏{‏إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد‏}‏ فيحرس من يلوذ به سبحانه منهم من المكاره، وهذا يحتمل أن يكون جواب توعدهم المفهوم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى تَبَابٍ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 37‏]‏ أو من قوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏فَوقَاهُ الله سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ‏}‏ ويحتمل أن يكون متاركة والتفريع في ‏{‏فَسَتَذْكُرُونَ‏}‏ على قوله الأخير‏:‏ ‏{‏حِسَابٍ وياقوم مَا لِى أَدْعُوكُمْ‏}‏ الخ، وجعله من جعل ذلك معطوفاً على ‏{‏يا قوم ما لي أدعوكم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 41‏]‏ الثاني تفريعاً على جملة الكلام، و‏{‏مَا‏}‏ في ‏{‏مَا مَكَرُواْ‏}‏ مصدرية و‏{‏السيئات‏}‏ الشدائد أي فوقاه الله تعالى شدائد مكرءهم ‏{‏وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ‏}‏ أي بفرعون وقومه، فاستغنى بذكرهم عن ذكره ضرورة أنه أولى منهم بذلك، ويجوز أن يكون آل فرعون شاملاً له عليه اللعنة بأن يراد بهم مطلق كفرة القبط كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اعلموا ءالَ دَاوُودُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 13‏]‏ انه شامل لداود عليه السلام، وكانوا على ما حكي الاوزاعي ولا اعتقد صحته ألفي ألف وستمائة ألف‏.‏

وعن ابن عباس أن هذا المؤمن لما أظهر إيمانه قصد فرعون قتله فهرب إلى جبل فبعث في طلبه ألف رجل فمنهم من أدركه يصلي والسباع حوله فلما هموا ليأخذوه ذبت عنه فأكلتهم، ومنهم من مات في الجبل عطشاً، ومنهم من رجع إلى فرعون خائباً فاتهمه وقتله وصبله، فالمراد بآل فرعون هؤلاء الألف الذين بعثهم إلى قتله أي فنزل بهم وأصابهم ‏{‏فِرْعَوْنَ سُوء العذاب‏}‏ الغرق على الأول وأكل السباع والموت عطشاً والقتل والصلب على ما روى عن ابن عباس والنار عليهما ولعله الأولى، وإضافة ‏{‏سُوء‏}‏ إلى العذاب لامية أو من إضافة الصفة للموصوف

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏النار‏}‏ مبتدأ وجملة قوله تعالى ‏{‏يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً‏}‏ خبره والجملة تفسير لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحَاقَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 45‏]‏ الخ‏.‏

وجوز أن تكون ‏{‏النار‏}‏ بدلاً من ‏{‏سُوء العذاب‏}‏ و‏{‏يُعْرَضُونَ‏}‏ في ضموع الحال منها أو من الآل، وأن تكون النار خبر مبتدأ محذوف هو ضمير ‏{‏سُوء العذاب‏}‏ كأنه قيل‏:‏ ما سوء العذاب‏؟‏ فقيل‏:‏ هو النار، وجملة ‏{‏يُعْرَضُونَ‏}‏ تفسير على ما مر، وفي الوجه الأول من تعظيم أمر النار وتهويل عذابها ما ليس في هذا الوجه كما ذكره «صاحب الكشاف»، ومنشأ التعظيم على ما في «الكشف» الاجمال والتفسير في كيفية تعذيبهم وإفادة كل من الجملتين نوعاً من التهويل‏.‏ الأولى‏:‏ الإحاطة بعذاب يستحق أن يسمى سوء العذاب‏.‏ والثانية‏:‏ النار المعروض هم عليها غدواً وعشياً‏.‏

والسر في إفادة تعظيم النار في هذا الوجه دون ما تضمن تفسير ‏{‏سُوء العذاب‏}‏ وبيان كيفية التعذيب أنك إذا فسرت ‏{‏سُوء العذاب‏}‏ بالنار فقد بالغت في تعظيم سوء العذاب‏.‏ ثم استأنفت بيعرضون عليها تتميماً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ‏}‏ من غير مدخل للنار فيما سيق له الكلام، وإذا جئت بالجملتين من غير نظر إلى المفردين وإن أحدهما تفسير للآخر فقد قصدت بالنار قصد الاستدلال حيث جعلتها معتمد الكلام وجئت بالجملة بياناً وإيضاحاً للأولى كأنك قد آذنت بأنها أوضح لاشتمالها على ما لا أسوأ منه أعني النار؛ على أن من موجبات تقديم المسند إليه إنباؤه عن التعظيم مع اقتضاء المقام له وههنا كذلك على ما لا يخفى، والتركيب أيضاً يفيد التقوى على نحو زيد ضربته‏.‏

ومن هنا قال «صاحب الكشف»‏:‏ هذا هو الوجه، وأيد بقراءة من نصب ‏{‏النار‏}‏ بناء على أنها ليست منصوبة بأخص أو أعني بل بإضمار فعل يفسره ‏{‏يُعْرَضُونَ‏}‏ مثل يصلون فإن عرضهم على النار إحراقهم بها من قولهم‏:‏ عرض الأساري على السيف قتلوا به، وهو من باب الاستعارة التمثيلية بتشبيه حالهم بحال متاع يبرز لمن يريد أخذه، وفي ذلك جعل النار كالطالب الراغب فيهم لشدة استحقاقهم الهلاك، وهذا العرض لأرواحهم‏.‏

أخرج ابن أبي شيبة‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ عن هزيل بن شرحبيل أن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو وتروح على النار فذلك عرضها‏.‏

أخرج ابن أبي شيبة‏.‏ وهناد‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ عن هزيل بن شرحبيل أن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو وتروح على النار فذلك عرضها‏.‏

وأخرج عبد الرزاق‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن مسعود نحو ذلك، وهذه الطير صور تخلق لهم من صور أعمالهم، وقيل‏.‏ ذاك من باب التمثيل وليس بذاك، وذكر الوقتين ظاهر في التخصيص بمعنى أنهم يعرضون على النار صباحاً مرة ومساء مرة أي فيما هو صباح ومساء بالنسبة إلينا، ويشهد له ما أخرجه ابن المنذر‏.‏

والبيهقي في «شعب الايمان» وغيرهما عن أبي هريرة أنه كان له صرختان في كل يوم غدوة وعشية كان يقول أول النهار‏:‏ ذهب الليل وجاء النهار وعرض آل فرعون على النار، ويقول أول الليل‏:‏ ذهب النهار وجاء الليل وعرض آل فرعون على النار فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله تعالى من النار، والفصل بين الوقتين إما بترك العذاب أو بتعذبهم بنوع آخر غير النار‏.‏

وجوز أن يكون المراد التأبيد اكتفاء بالطرفين المحيطين عن الجميع، وأياً ما كان ففي الآية دليل ظاهر على بقاء النفس وعذاب البرزخ لأنه تعالى بعد أن ذكر ذلك العرض قال جل شأنه‏:‏

‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أَدْخِلُواْ ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب‏}‏ وهو ظاهر في المغايرة فيتعين كون ذلك في البرزخ، ولا قائل بالفرق بينهم وبين غيرهم فيتم الاستدلال على العموم، وفي «الصحيحين»‏.‏ وغيرهما عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيء إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال‏:‏ هذا مقعدك حتى يبعثك الله تعالى ‏"‏ و‏{‏يَوْمٍ‏}‏ على ما استظهره أبو حيان معمول لقول مضمر، والجملة عطف على ما قبلها أي ويوم تقوم الساعة يقال للملائكة‏:‏ أدخلوا آل فرعون أشد العذاب أي عذاب جهنم فإنه أشد مما كانوا فيه أو أشد عذاب جهنم فإن عذابها ألوان بعضها أشدّ من بعض، وعن بعض أشد العذاب هو عذاب الهاوية، وقيل‏:‏ هو معمول ‏{‏أَدْخِلُواْ‏}‏‏.‏

وقيل‏:‏ هو عطف على ‏{‏عشياً‏}‏ فالعامل فيه ‏{‏أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ‏}‏ و‏{‏أَدْخِلُواْ‏}‏ على إضمار القول وهو كما ترى، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ والحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ وابن كثير، والعربيان‏.‏ وأبو بكر ‏{‏أَدْخِلُواْ‏}‏ على أنه أمر لآل فرعون بالدخول أي ادخلوا يا آل فرعون

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِى النار‏}‏ معمولاً لا ذكر محذوفاً أي واذكر وقت تخاصمهم في النار، والجملة معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة لا على مقدر تقديره اذكر ما تلي عليك من قصة موسى عليه السلام‏.‏ وفرعون‏.‏ ومؤمن آل فرعون ولا على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى البلاد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ أو على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الازفة‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 18‏]‏ لعدم الحاجة إلى التقدير في الأول وبعد المعطوف عليه في الأخيرين‏.‏

وزعم الطبري أن ‏{‏إِذْ‏}‏ معطوفة على ‏{‏إِذِ القلوب لَدَى الحناجر‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 18‏]‏ وهو مع بعده فيه ما فيه، وجوز أن تكون معطوف على ‏{‏غُدُوّاً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 46‏]‏ وجملة ‏{‏يَوْمٍ تَقُومُ‏}‏ اعتراض بينهما وهو مع كونه خلاف الظاهر قليل الفائدة، وضمير يتحاجون على ما اختاره ابن عطية وغيره لجميع كفار الأمم، ويتراءى من كلام بعضهم أنه لكفار قريش، وقيل‏:‏ هو لآل فرعون، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَيَقُولُ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا‏}‏ تفصيل للمحاجة والتخاصم في النار أي يقول المرؤسون لرؤسائهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُنَّا‏}‏ في الدنيا ‏{‏لَكُمْ تَبَعًا‏}‏ تباعاً فهو كخدم في جمع خادم‏.‏

وذهب جمع لقلة هذا الجمع إلى أن ‏{‏تَبَعًا‏}‏ مصدر إما بتقدير مضاف أي إنا كنا لكم ذوي تبع أي أتباعاً أو على التجوز في الظرف أو الإسناد للمبالغة بجعلهم لشدة تبعيتهم كأنهم عين التبعية ‏{‏فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مّنَ النار‏}‏ بدفع بعض عذابها أو بتحمله عنا، و‏{‏مُّغْنُونَ‏}‏ من الغناء بالفتح بمعنى الفائدة، و‏{‏نَصِيباً‏}‏ بمعنى حصة مفعول لما دل عليه من الدفع أو الحمل أوله بتضمين أحدهما أي دافعين أو حاملين عنا نصيباً، ويجوز أن يكون نصيباً قائماً مقام المصدر كشيئاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله شَيْئًا‏}‏‏.‏ و‏{‏مِنَ النار‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 10‏]‏ على هذا متعلق بمغنون وعلى ما قبله ظرف مستقر بيان لنصيباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ الذين استكبروا‏}‏ للضعفاء ‏{‏إِنَّا كُلٌّ فِيهَا‏}‏ نحن وأنتم فكيف نغني عنكم ولو قدرنا لدفعنا عن أنفسنا شيئاً من العذاب؛ ورفع ‏{‏كُلٌّ‏}‏ على الابتداء وهو مضاف تقديراً لأن المراد كلنا و‏{‏فِيهَا‏}‏ خبره والجملة خبر إن‏.‏

وقرأ ابن السميقع‏.‏ وعيسى بن عمر ‏{‏كَلاَّ‏}‏ بالنصب، وخرجه ابن عطية‏.‏ والزمخشري على أنه توكيد لاسم إن، وكون كل المقطع عن الإضافة يقع تأكيداً اكتفاء بأن المعنى عليها مذهب الفراء ونقله أبو حيان عن الكوفيين‏.‏ ورده ابن مالك في «شرحه للتسهيل»، وقيل‏:‏ هو حال من المستكن في الظرف‏.‏ وتعقب بأنه في معنى المضاف ولذا جاز الابتداء به فكيف يكون حالاً، وإذا سلم كفاية هذا المقدار من التنكير في الحالية فالظرف لا يعمل في الحال المتقدمة كما يعمل في الظرف المتقدم نحو كل يوم لك ثوب‏.‏

وأجيب عن أمر العمل بأن الأخفش أجاز عمل الظرف في حال إذا توسطت بينه وبين المبتدأ نحو زيد قائماً في الدار عندك وما في الآية الكريمة كذلك، على أن بعضهم أجاز ذلك ولو تقدمت الحال على المبتدأ والظرف؛ نعم منعه بعضهم مطلقاً لكن المخرج لم يقلده، وابن الحاجب جوزه في بعض كتبه ومنعه في بعض، قيل‏:‏ وقد يوفق بينهما بأن المنع على تقدير عمل الظرف لنيابته عن متعلقه، والجواز على جعل العامل متعلقه المقدر فيكون لفظياً لا معنوياً، وإلى هذا التخريج ذهب ابن مالك وأنشد له قول بعض الطائيين‏:‏ دعا فأجبنا وهو بادي ذلة *** لديكم فكان النصر غير قريب

وحمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 67‏]‏ في قراءة النصب على ذلك، وقال أبو حيان‏:‏ الذي اختاره في تخريج هذه القراءة أن كلا بدل من اسم إن لأن كلا يتصرف فيها بالابتداء ونواسخه وغير ذلك فكأنه قيل‏:‏ أن كلا فيها‏.‏ وإذا كانوا قد تأولوا حولاً أكتعاً ويوماً أجمعاً على البدل مع أنهما لا يليان العوامل فأن يدعي في كل البدل أولى، وأيضاً فتنكير ‏{‏كُلٌّ‏}‏ ونصبه حالاً في غاية الشذوذ نحو مررت بهم كلا أي جميعاً‏.‏ ثم قال‏:‏ فإن قلت‏:‏ كيف تجعله بدلاً وهو بدل كل من كل من ضمير المتكلم وهو لا يجوز على مذهب جمهور النحويين‏؟‏ قلت‏:‏ مذهب الأخفش‏.‏ والكوفيين جوازه وهو الصحيح، على أن هذا ليس مما وقع فيه الخلاف بل إذا كان البدل يفيد الإحاطة جاز أن يبدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب لا نعلم خلافاً في ذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَكُونُ لَنَا عِيداً لاِوَّلِنَا وَءاخِرِنَا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 114‏]‏ وكقولك‏:‏ مررت بكم صغيركم وكبيركم معناه مررت بكم كلكم وتكون لنا عيداً كلنا، فإذا جاز ذلك فيما هو بمعنى الإحاطة فجوازه فيما دل على الإحاطة وهو ‏{‏كُلٌّ‏}‏ أولى ولا التفات لمنع المبرد البدل فيه لأنه بدل من ضمير المتكلم لأنه لم يحقق مناط الخلاف انتهى، ولعل القول بالتوكيد أحسن من هذا وأقرب، ورد ابن مالك له لا يعول عليه ‏{‏إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد‏}‏ فأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وقدر لكل منا ومنكم عذاباً لا يدفع عنه ولا يتحمله عنه غيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الذين فِى النار‏}‏ من الضعفاء والمستكبرين جميعاً لما ضاقت بهم الحيل وعيت بهم العلل ‏{‏لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ‏}‏ أي للقوام بتعذيب أهل النار، وكان الظاهر لخزنتها بضمير النار لكن وضع الظاهر موضعه للتهويل، فإن جهنم أخص من النار بحسب الظاهر لإطلاقها على ما في الدنيا أو لأنها محل لأشد العذاب لشامل للنار وغيرها، وجوز أن يكون ذلك لبيان محل الكفرة في النار بأن تكون جهنم أبعد درجاتها من قولهم‏:‏ بئر جهنام بعيدة القعر وفيها أعتى الكفرة وأطغاهم، فلعل الملائكة الموكلين بعذاب أولئك أجوب دعوة لزيادة قربهم من الله عز وجل فلهذا تعمدهم أهل النار بطلب الدعوة منهم وقالوا لهم‏:‏ ‏{‏ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفّفْ عَنَّا يَوْماً‏}‏ أي مقدار يوم من أيام الدنيا ‏{‏مّنَ العذاب‏}‏ أي شيئاً من العذاب، فمفعول ‏{‏يُخَفّفْ‏}‏ محذوف، و‏{‏مِنْ‏}‏ تحتمل البيان والتبعيض، ويجوز أن يكون المفعول ‏{‏يَوْماً‏}‏ بحذف المضاف نحو ألم يوم و‏{‏مّنَ العذاب‏}‏ بيانه، والمراد يدفع عنا يوماً من أيام العذاب‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ أُوذِينَا لِمَ تَكْفُرُونَ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بالبينات‏}‏ أي لم تنبهوا على هذا ولم تك تأتيكم رسلكم في الدنيا على الاستمرار بالحجج الواضحة الدالة على سوء مغبة ما كنتم عليه من الكفر والمعاصي كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسِيقَ الذين كَفَرُواْ إلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءوهَا فُتِحَتْ أبوابها وَقَالَ‏}‏ وأرادوا بذلك إلزامهم وتوبيخهم على إضاعة أوقات الدعاء وتعطيل أسباب الإجابة ‏{‏قَالُواْ بلى‏}‏ أي أتونا بها فكذبناهم كما نطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَىْء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال كَبِيرٍ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 9‏]‏ والفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ فادعوا‏}‏ فصيحة أي إذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم فإن الدعاء لمن يفعل فعلكم ذلك مستحيل صدوره عنا، وقيل‏:‏ في تعليل امتناع الخزنة عن الدعاء‏:‏ لأنا لم نؤذن في الدعاء لأمثالكم، وتعقب بأنه مع عرائه عن بيان أن سببه من قبل الكفرة كما يفصح عنه الفاء ربما يوهم أن الإذن في حيز الإمكان وأنهم لو أذن لهم لفعلوا فالتعليل الأول أولى، ولم يريدوا بأمرهم بالدعاء اطماعهم في الإجابة بل إقناطهم منها وإظهار خيبتهم حيثما صرحوا به في قولهم‏:‏ ‏{‏وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ فِى ضلال‏}‏ أي في ضياع وبطلان أي لا يجاب، فهذه الجملة من كلام الخزنة، وقيل‏:‏ هي من كلامه تعالى إخباراً منه سبحانه لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ واستدل بها مطلقاً من قال‏:‏ إن دعاء الكافر لا يستجاب وأنه لا يمكن من الخروج في الاستسقاء، والحق أن الآية في دعاء الكفار يوم القيامة وأن الكافر قد يقع في الدنيا ما يدعو به ويطلبه من الله تعالى إثر دعائه كما يشهد بذلك آيات كثيرة، وأما أنه هل يقال لذلك إجابة أم لا فبحث لا جدوى له

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءامَنُواْ‏}‏ الخ كلام مستأنف مسوق من جهته تعالى لبيان أن ما أصاب الكفرة من العذاب المحكى من فروع حكم كلي تقتضيه الحكمة هو أن شأننا المستمر أننا ننصر رسلنا وأتباعهم ‏{‏وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم‏}‏ بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة بالاستئصال والقتل والسبي وغير ذلك من العقوبات، ولا يقدح في ذلك ما قد يتفق للكفرة من صورة الغلبة امتحاناً إذ العبرة إنما هي بالعواقب وغالب الأمر، وقد تقدم تمام الكلام في ذلك فتذكر ‏{‏وَيَوْمَ يَقُومُ الاشهاد‏}‏ أي ويوم القيامة عبر عنه بذلك للأشعار بكيفية النصرة وأنها تكون عند جمع الأولين والآخرين وشهادة الأشهاد للرسل بالتبليغ وعلى الكفرة بالتكذيب، فالاشهاد جمع شهيد بمعنى شاهد كإشراف جميع شريف، وقيل‏:‏ جمع شاهد بناء على أن فاعلاً قد يجمع على أفعال، وبعض من لم يجوز يقول‏:‏ هو جمع شهد بالسكون اسم جمع لشاهد كما قالوا في صحب بالسكون اسم جمع لصاحب، وفسر بعضهم ‏{‏الاشهاد‏}‏ بالجوارح وليس بذاك، وهو عليهما من الشهادة، وقيل‏:‏ هو من المشاهدة بمعنى الحضور‏.‏

وفي «الحواشي الخفاجية» أن النصرة في الآخرة لا تتخلف أصلاً بخلافها في الدنيا فإن الحرب فيها سجال وإن كانت العاقبة للمتقين ولذا دخلت ‏{‏فِى‏}‏ على ‏{‏الحياة‏}‏ دون قرينه لأن الظرف المجرور بفي لا يستوعب كالمنصوب على الظرفية كما ذكره الأصوليون انتهى، وفيه بحث‏.‏

وقرأ ابن هرمز‏.‏ وإسماعيل وهي رواية عن أبي عمرو ‏{‏تَقُومُ‏}‏ بتاء التأنيث على معنى جماعة الأشهاد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ‏}‏ بدل من ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ‏}‏ و‏{‏لا‏}‏ قيل‏:‏ تحتمل أن تكون لنفي النفع فقط على معنى أنهم يعتذرون ولا ينفعهم معذرتهم لبطلانها وتحتمل أن تكون لنفي النفع والمعذرة على معنى لا تقع معذرة لتنفع، وفي «الكشاف» يحتمل أنهم يعتذرون بمعذرة ولكنها لا تنفع لأنها باطلة وأنهم لو جاءوا بمعذرة لم تكن مقبولة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 36‏]‏ وأراد على ما في «الكشف» أن عدم النفع إما لأمر راجع إلى المعذرة الكائنة وهو بطلانها، وإما لأمر راجع إلى من يقبل العذر ولا نظر فيه إلى وقوع العذر؛ والحاصل أن المقصود بالنفي الصفة ولا نظر فيه إلى الموصوف نفياً أو إثباتاً، وليس في كلامه إشارة إلى إرادة نفيهما جميعاً فتدبر، وقرأ غير الكوفيين‏.‏ ونافع ‏{‏لاَّ تَنفَعُ‏}‏ بالتاء الفوقية، ووجهها ظاهر، وأما قراءة الياء فلأن المعذرة مصدر وتأنيثه غير حقيقي مع أنه فصل عن الفعل بالمفعول ‏{‏وَلَهُمُ اللعنة‏}‏ أي البعد من الرحمة‏.‏

‏{‏وَلَهُمْ سُوء الدار‏}‏ هي جهنم وسوءها ما يسوء فيها من العذاب فإضافته لأمية أو هي من إضافة الصفة للموصوف أي الدار السوأى‏.‏ ولا يخفى ما في الجملتين من إهانتهم والتهكم بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الهدى‏}‏ ما يهتدي به من المعجزات والصحف والشرائع فهو مصدر تجوز به عما ذكر أو جعل عين الهدى مبالغة فيه‏.‏

‏{‏وَأَوْرَثْنَا بَنِى إسراءيل الكتاب‏}‏ تركنا عليهم بعد وفاته عليه السلام من ذلك التوراة فالإيراث مجاز مرسل عن الترك أو هو استعارة تبعية له، ويجوز أن يكون المعنى جعلنا بني إسرائيل آخذين الكتاب عنه عليه السلام بلا كسب فيشمل من في حياته عليه السلام كما يقال‏:‏ العلماء ورثة الأنبياء، وهو وجه إلا أن اعتبار بعد الموت أوفق في الإيراث والعلاقة عليه أتم، وإرادة التوراة من الكتاب هو الظاهر، وجوز أن يكون المراد به جنس ما أنزل على أنبيائهم فيشمل التوراة والزبور والإنجيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏هُدًى وذكرى‏}‏ هداية وتذكرة أي لأجلهما أو هادياً ومذكراً فهما مصدران في موضع الحال ‏{‏لاِوْلِى الالباب‏}‏ لذوي العقول السليمة الخالصة من شوائب الوهم، وخصوا لأنهم المنتفعون به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏فاصبر‏}‏ أي إذا عرفت ما قصصناه عليك للتأسي فاصبر على ما نالك من أذية المشركين ‏{‏إِنَّ وَعْدَ الله‏}‏ إياك والمؤمنين بالنصر المشار إليه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءامَنُواْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51‏]‏ أو جميع مواعيده تعالى ويدخل فيه وعده سبحانه بالنصر دخولاً أولياً ‏{‏حَقّ‏}‏ لا يخلفه سبحانه أصلاً فلا بد من وقوع نصره جل شأنه لك وللمؤمنين، واستشهد بحال موسى ومن معه وفرعون ومن تبعه ‏{‏واستغفر لِذَنبِكَ‏}‏ أقبل على أمر الدين وتلاف ما ربما يفرط مما يعد بالنسبة إليك ذنباً وإن لم يكنه، ولعل ذلك هو الاهتمام بأمر العدا بالاستغفار فإن الله تعالى كافيك في النصر وإظهار الأمر، وقيل‏:‏ ‏{‏لِذَنبِكِ‏}‏ لذنب أمتك في حقك، قيل‏:‏ فإضافة المصدر للمفعول ‏{‏وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بالعشى والابكار‏}‏ أي ودم على التسبيح والتحميد لربك على أنه عبر بالطرفين وأريد جميع الأوقات، وجوز أن يراد خصوص الوقتين، والمراد بالتسبيح معناه الحقيقي كما في الوجه الأول أو الصلاة، قال قتادة‏:‏ أريد صلاة الغداة وصلاة العصر، وعن الحسن أريد ركعتان بكرة وركعتان عشياً، قيل‏:‏ لأن الواجب بمكة كان ذلك، وقد قدمنا إن الحس لا يقول بفرضية الصلوات الخمس بمكة فقيل‏:‏ كان يقول بفرضية ركعتين بكرة وركعتين عشياً‏.‏

وقيل‏:‏ إنه يقول كان الواجب ركعتين في أي وقت اتفق، والكل مخالف للصريح المشهور، وجوز على إرادة الدوام أن يراد بالتسبيح الصلاة ويراد بذلك الصلوات الخمس، وحكى ذلك في «البحر» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين يجادلون فِى ءايات الله‏}‏ دلائله سبحانه التي نصبها على توحيده وكتبه المنزلة وما أظهر على أيدي رسله من المعجزات ‏{‏بِغَيْرِ سلطان اتِيهِمْ‏}‏ أي بغير حجة في ذلك أتتهم من جهته تعالى، والجال متعلق بيجادلون وتقييد المجادلة بذلك مع استحالة إتيان الحجة للإيذان بأن المتكلم في أمر الدين لا بدّ من استناده إلى حجة واضحة وبرهان مبين، وهذا عام في كل مجادل مبطل وإن نزل في قوم مخصوصين وهم على الأصح مشركو مكة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ‏}‏ خبر لإن و‏{‏ءانٍ‏}‏ نافية، والمراد بالصدور القلوب أطلق عليها للمجاورة والملابسة، والكبر والتكبر والتعاظم أي ما في قلوبهم إلا تكبرا عن الحق وتعاظم عن التفكر والتعلم أو هو مجاز عن إرادة الرياسة والتقدم على الإطلاق أو إرادة أن تكون النبوة لهم أي ما في قلوبهم إلا إرادة الرياسة أو أن تكون النبوة لهم دونك حسداً وبغياً حسبما قالوا‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 11‏]‏ ولذلك يجادلون في آياته تعالى لا أن فيها موقع جدال ما أو أن لهم شيئاً يتوهم صلاحيته لأن يكون مداراً لمجادلتهم في الجملة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا هُم ببالغيه‏}‏ صفة لكبر أي ما هم ببالغي موجب الكبر ومقتضيه وهو ما متعلق إرادتهم من دفع الآيات أو من الرياسة أو النبوة، وقال الزجاج‏:‏ المعنى ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر عليك وما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر لأن الله تعالى أذلهم، وقيل‏:‏ الجملة مستأنفة وضمير ‏{‏بالغيه‏}‏ لدفع الآيات المفهوم من المجادلة، وما تقدم أظهر، وقال مقاتل‏:‏ المجادلون الذين نزلت فيهم الآية اليهود عظموا أمر الدجال فنزلت‏.‏ وإلى هذا ذهب أبو العالية‏.‏ أخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن أبي حاتم بسند صحيح عنه قال‏:‏ إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ إن الدجال يكون منا في آخر الزمان ويكون من أمره ما يكون فعظموا أمره وقالوا‏:‏ يصنع كذا وكذا فأنزل الله تعالى ‏{‏إِنَّ الذين يجادلون‏}‏ الخ، وهذا كالنص في أن أمر اليهود كان السبب في نزولها، وعليه تكون الآية مدنية وقد مر الكلام في ذلك فتذكر‏.‏ وفي رواية أن اليهود كانوا يقولون‏:‏ يخرج صاحبنا المسيح بن داود يريدون الدجال ويبلغ سلطانه البر والبحر وتسير معه الانهار وهو آية من آيات الله فيرجع إلينا الملك، حكاها في «الكشاف» ثم قال‏:‏ فسمي الله تعالى تمنيهم ذلك كبراً ونفي سبحانه أن يبلغوا متمناهم، ويخطر لي على هذا القول أن اليهود لم يريدوا من تعظيم أمر الدجال سوى نفي أن يكون نبينا صلى الله عليه وسلم النبي المبعوث في آخر الزمان الذي بشر به أنبياؤهم وزعم أن المبشر به هو ذلك اللعين، ففي بعض الروايات أنهم قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ لست صاحبنا يعنون النبي المبشر به أنبياؤهم، فالإضافة لأدنى ملابسة بل هو المسيح بن داود يبلغ سلطانه البر والبحر ويسير معه الأنهار، وفي ذلك بزعمهم دفع الآيات الدالة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم والداعي لهم إلى ذلك الكبر والحسد وحب أن لا تخرج النبوة من بني إسرائيل، فمعنى الآية عليه نحو معناها على القول بكون المجادلين مشركي مكة‏.‏

ثم إن اليهود عليهم اللعنة كذبوا أولاً بقولهم للنبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ لست صاحبنا، وثانياً بقولهم‏:‏ بل هو المسيح بن داود يعنون الدجال، أما الكذب الأول فظاهر، وأما الثاني فلأنه لم يبعث نبي إلا وقد حذر أمته الدجال وأنذرهم إياه كما نطقت بذلك الأخبار، وهم قالوا‏:‏ هو صاحبنا يعنون المبشر ببعثته آخر الزمان، وكل ذلك من الجدال في آيات الله تعالى بغير سلطان ‏{‏فاستعذ بالله‏}‏ أي فالتجىء إليه تعالى من كيد من يحسدك ويبغي عليك، وفيه رمز إلى أنه من همزات الشياطين، وقال أبو العالية‏:‏ هذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ من فتنة الدجال بالله عز وجل ‏{‏أَنَّهُ السميع البصير‏}‏ أي لأقوالكم وأفعالكم، والجملة لتعليل الأمر قبلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏لَخَلْقُ السموات والارض *أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس‏}‏ تحقيق للحق وتبيين لأشهر ما يجادلون فيه من أمر البعث الذي هو كالتوحيد في وجوب الايمان به على منهاج قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَ لَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والارض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 81‏]‏ وإضافة ‏{‏خُلِقَ‏}‏ إلى ما بعده من إضافة المصدر إلى مفعوله أي لخلق الله تعالى السماوات والأرض أعظم من خلقه سبحانه الناس لأن الناس بالنسبة إلى تلك الأجرام العظيم كلا شيء، والمراد أن من قدر على خلق ذلك فهو سبحانه على خلق ما لا يعد شيئاً بالنسبة إليه بدأ وإعادة أقدر وأقدر‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ الناس الدجال وهو بناء على ما روى عنه في المجادلين، ولعمري أن تطبيق هذا ونحوه على ذلك في غاية البعد وأنا لا أقول به ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ وهم الكفرة، ولما كان ما قبل لإثبات البعث الذي يشهد له العقل وتقتضيه الحكم اقتضاء ظاهراً ناسب نفي العلم عمن كفر به لأنهم لو كانوا من العقلاء الذين من شأنهم التدبر والتفكر فيما يدل عليه لم يصدر عنهم إنكاره، ولم يذكر للعلم مفعولاً لأن المناسب للمقام تنزيله منزلة اللازم، وقيل‏:‏ المراد لا يعلمون أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس أي لا يجرون على موجب العلم بذلك من الإقرار بالبعث ومن لا يجري على موجب علمه هو والجاهل سواء‏.‏

وفي «البحر» أنه تعالى نبه على أنه لا ينبغي أن يجادل في آيات الله ولا يتكبر الإنسان بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَخَلْقُ‏}‏ الخ أي أن مخلوقاته تعالى أكبر وأجل من خلق البشر فما لأحدهم يجادل ويتكبر على خالقه سبحانه وتعالى ولكن أكثر الناس لا يعلمون لا يتأملون لغلبة الغفلة عليهم ولذلك جادلوا وتكبروا، ولا يخفى أنه تفسير قليل الجدوى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِى الاعمى والبصير‏}‏ أي الغافل عن معرفة الحق في مبدئه ومعاده ومن كانت له بصيرة في معرفتها، وتفسير ‏{‏البصير‏}‏ بالله تعالى و‏{‏الاعمى‏}‏ بالصنم غير مناسب هنا ‏{‏والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ أي المحسن ولذا قوبل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ المسىء‏}‏ وعدل عن التقابل الظاهر كما في الأعمى والبصير إلى ما في النظم الجليل إشارة إلى أن المؤمنين علم في الإحسان، وقدم ‏{‏الاعمى‏}‏ لمناسبة العمى ما قبله من نفي العلم، وقدم الذين آمنوا بعد لمجاورة البصير ولشرفهم، وفي مثله طرق أن يجاور كل ما يناسبه كما هنا، وأن يقدم ما يقابل الأول ويؤخر ما يقابل الآخر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَسْتَوِى الاعمى والبصير وَلاَ الظلمات وَلاَ النور وَلاَ الظل وَلاَ الحرور‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 19-21‏]‏ وأن يؤخر المتقابلان كالأعمى والأصم والسميع والبصير وكل من باب التفنن في البلاغة وأساليب الكلام، والمقصود من نفي استواء من ذكر بيان أن هذا التفاوت مما يرشد إلى البعث كأنه قيل‏:‏ ما يستوي الغافل والمستبصر والمحسن والمسيء فلا بد أن يكون لهم حال أخرى يظر فيها ما بين الفريقين من التفاوت وهي فيما بعد البعث‏.‏

وأعيدت ‏{‏لا‏}‏ في المسيء تذكيراً للنفي السابق لما بينهما من الفصل بطول الصلة، ولأن المقصود بالنفي أن الكافر المسيء لا يساوي المؤمن المحسن، وذكر عدم مساواة الأعمى للبصير توطئة له، ولو لم يعد النفي فيه فربما ذهل عنه وظن أنه ابتداء كلام، ولو قيل‏:‏ ولا الذين آمنوا والمسيء لم يكن نصاً فيه أيضاً لاحتمال أنه مبتدأ كلام، ولو قيل‏:‏ ولا الذين آمنوا والمسيء لم يكن نصاً فيه أيضاً لاحتمال أنه مبتدأ و‏{‏قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ‏}‏ خبره وجمع على المعنى قاله الخفاجي، وهو إن تم فعلى القراءة بياء الغيبة، وقيل‏:‏ لم يقل ولا الذين آمنوا والمسيء لأن المقصود نفي مساواة المسيء للمحسن لا نفي مساواة المحسن له إذ المراد بيان خسارته ولا يصفو عن كدر فتدبر، والموصول مع عطف عليه معطوف على ‏{‏الاعمى‏}‏ مع ما عطف عليه عطف المجموع على المجموع كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الاول والاخر والظاهر والباطن‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 2‏]‏ ولم يترك العطف بينهما بناء على أن الأول مشبه به والثاني مشبه وهما متحدان مآلاً لأن كلا من الوصفين الأولين مغاير لكل من الوصفين الأخيرين وتغاير الصفات كتغاير الذوات في صحة التعاطف، ووجه التغاير أن الغافل والمستبصر والمحسن والمسيء صفات متغايرة المفهوم بقطع النظر عن اتحاد ما صدقهما وعدمه، وقيل‏:‏ التغاير بين الوصفين الأولين والوصفين الأخيرين من جهة أن القصد في الأولين إلى العلم، وفي الأخيرين إلى العمل، وهو وجه لا بأس به، وقيل‏:‏ هما وإن اتحدا ذاتاً متغايران اعتباراً من حيث أن الثاني صريح والأول مذكور على طريق التمثيل، ونظر فيه بأنه لو اكتفى بمجرد هذه المغايرة لزم جواز عطف المشبه على المشبه به وعكسه‏.‏